أن تبني أن تهتدي: دروسٌ من التصميم العربي والإسلامي
التصميم بالأصل منطق فكري، لا زينة
أن تصمم يعني أن تجسّد منطقاً بشكل بصري – وفي ما استقيته من نشأتي العربية والإسلامية، الفكر لا يُرى وحسب، بل يُشعر به، ويُتلى، ويُعاش. إنه لا يُستمد من مصدر واحد، بل من منابع فكرية متداخلة، تنجب المعاني، لذا فهو دائمًا وليد عوالم متعددة.
التصميم في يومنا هذا يُقدَّم غالبًا كملتقى بين النموذج والمهمة والجماليات هذا إن لم يتم اختزاله بالجماليات حصراً ولكن تحت هذه الطبقات . تكمن طبقة أعمق وهي التوجّه الفلسفي. هذه المقالة تسعى لتقديم التصميم في الفكر العربي والإسلامي، لا بوصفه آثارًا تاريخية ونقوشًا معمارية، بل بوصفه كوزمولوجيات حيّة لا تزال تُشكِّل طريقة رؤيتنا للفضاء، والغاية، وما يمكن أن يكون.
وبما أنني مصممة أنتمي ثقافيًا وفكريًا إلى العروبة والإسلام فإنني أشكل حرفتي بأن لا أتعامل مع التصميم كعلم مستورد بل كامتداد حيّ يتجدّد من داخل منظومات معرفية أصيلة. من المهم أن أوضّح أنني أكتب من منظور محدّد، داخل تقليد واسع ومتعدد. فهناك العديد من الكوزمولوجيات الإسلامية التي تتشكّل عبر الاختلافات الإقليمية، والمذهبية، والفلسفية كسنيّة وشيعية، بدوية ومتوسطية، صوفية وكلامية وغيرها. هذه ليست مجرد موروثات ثقافية للحفاظ عليها أو الاستشهاد بها؛ بل هي مناهج إدراك، تتكوَّن من افتراضات ميتافيزيقية، وأولويات أخلاقية، والتزامات أنطولوجية. إنها تؤثّر ليس فقط في كيف نبني، بل أيضًا في لماذا نبني ولأجل من.
في هذا المقال، أقدّم عددًا من المبادئ الفلسفية للتصميم، المستلهمة من الفلسفة العربية والإسلامية. هذه ليست مثاليات يُتغنى بها؛ بل هي متجسدة في الأنماط التصميمية، والممارسات الفنية، والأشكال المعمارية. ففي ما يعتبره البعض غياب التمثيل الصوري نرى تجلياً تجريدياً للغيب وفي أفنية الحدائق في البيوت العربية نري أن طين جُبل مع روحانيات الإنتماء وكله نمى في رحابة الصحراء التي تشكل نموذجاً للإيقاع المكاني والتنفس المقدّس للطبيعة.
ومع ذلك، غالبًا ما تتم قراءة هذه المبادئ من خلال عدسات استشراقية واستعمارية. وكما يشير المؤرخ جورج صليبا، فإن "السردية الكلاسيكية" السائدة تصوّر التقاليد الفكرية والعلمية الإسلامية كأنها ظهرت ردّة فعل وفعلٌ ناسخ وفعل ناقل للحضارات الإغريقية، أو الفارسية، أو الهندية وغيرهم من جيرانٍ لنا. هذا التأطير يُقصي الطاقة المعرفية الداخلية التي غذّت مساهمات المسلمين في بناء المعرفة الكونية (صليبا، 2007، ص. 2–3). وعلى خلاف هذا التصوّر، فإن الفكر الإسلامي أعاد تشكيل العلوم التي واجهها، وتجاوز تناقضات الميتافيزيقيا اليونانية، مؤسسًا إطارًا أنطولوجيًا مغايرًا، مرتكزًا على التوحيد، والاحتمالية المعرفية، ورفض الجمود الأرسطي. وكما يقول صليبا: أنتج العلماء المسلمون "نوعًا جديدًا من العلم" (صليبا، 2007، ص. 3–4) — علمًا مغايرًا في جوهره، لا مجرّد امتداد. وبالمنطق ذاته، لا تُعدّ فلسفات التصميم العربي والإسلامي بقايا عصرٍ ذهبي ماضٍ. إنها أنطولوجيات حيّة. لا تزال تولّد الإمكانيات، وإن لم تُنظَّر وتُدَرس بما يكفي .. ولا تزال، حتى يومنا هذا، شديدة الصلة بالحاضر والمستقبل. لا أقدمها لك كدعوةٍ للحنين للماضي، بل كإعادة توجيه: تجاوز للماديّة العلمانية نحو رؤية للفضاء بوصفه مشحونًا أخلاقيًا وكوزمولوجيًا. هذه المقالة لا تدّعي تقديم خارطة شاملة للتصميم الإسلامي ولكنها مسودة أولى لتنقيب فلسفيٍ لا لتحليل حالة. غايتها ليست أرشفة التراث الذي نشاهده حولنا كأننا متنا ولم يبقى من إلا القصص، بل كسر زجاجٍ عن بوصلة يعلوها غبار المتحف وتفعيل هذه البوصلة التي يمكن أن تتجدّد منها الممارسة. ما يلي إذًا، ليس رجوعًا نوستالجيًا للماضي؛ بل تنقيبٌ فلسفي، واستعادة لمنطقٍ عميق لطالما حضر في التعبير العربي والإسلامي المادي. هذه المبادئ لا تتعلق بـ"جماليات التراث" بل بأساليب إدراك وتشكيل متجذّرة في اللغة، الذكر، والنقش، والغيب، والانتماء.
التقييد: تكثيفٌ للمعنى، وتكاثرٌ لتجلياته
نتعامل مع الغيب كغيبٍ لا يُمثَّل، بل نُجليه عبر هندسة الشكل، وإيقاع الحرف، وقداسة الكلمة
من المبادئ الفلسفية الجوهرية في الفكر العربي والإسلامي أن الإرادة تزدهر حين تُصقل بالحدود. القيود المعروفة على التصوير التشبيهي – خاصةً في السياقات المقدسة وضمن بعض التقاليد السنية – لم تُضعف القدرة الإبداعية، بل أعادت توجيهها نحو التجريد بوصفه طريقًا للمعرفة. في غياب الصورة المجسدة، طوّر المفكرون والمصممون العرب والمسلمون التجريد كمنهج فلسفي ونظام جمالي: من الهندسة والزخرفة النباتية، إلى الخط، والتكرار، والتناظر. لم تكن هذه أشكالًا بديلة، بل تجليات حية للمعنى. كانت – ولا تزال – تعبيرات مادية عن حقيقة ميتافيزيقية. كثيرًا ما يُساء فهم التجريد الإسلامي من خلال عدسات خارجية، فيُختزل إلى زينة أو حل بديل، أو يُفسّر كسد غياب ولكن هذه التأويلات تتجاهل منطقه الجوهري: فالتجريد هو النقطة التي يلتقي فيها الشكل مع التقديس، وحيث تصبح الهندسة وعاءً للمعنى. من هذا المنطلق، لم يكن التجريد تراجعًا عن الصورة، بل اقترابًا من الجوهر. حيث سعت الفنون التمثيلية لمحاكاة الشكل، سعى التجريد الإسلامي لكشف المبدأ. أصبح التكرار إيماءة نحو النظام الإلهي، وارتقى الخط بالكلمة إلى لبنةِ البُنية، وتحولت الهندسة إلى لاهوت متحرّك، والخط إلى وحيٍ متجسّد.
فرفض التصوير لم يكن صمتًا، بل نمطًا آخر من الإفصاح – نمطٌ يفضّل الجوهر على الشبه، والحضور على التمثيل
على مستوى البنية: التجريد المعماري كتجلي ذو جلال
في العمارة، أصبح التجريدُ فضاءً محسوسًا، وتجربةً غامرة. فقصر الحمراء في غرناطة ليست مجرد مبنى، بل إطار فلسفي وبصري جدرانه تتلاشى في زخارف الزليج المتكررة بلا نهاية، وسقوفها تتحول إلى قباب هندسية، تجعل من الحجر تأملًا في التناسق والإيقاع. قبة الصخرة في القدس تُقصي التمثيل التصويري، وتستبدله بعناقٍ هائل للخط القرآني، فتتحول الكلمة المقدسة إلى معمارٍ يُبصر ويُعاش. وفي مسجد السلطان حسن في القاهرة، تتجسد الكتابة بنَسَقٍ عظيم: سطورٌ واسعة من الخط الكوفي والثلثي لا تعمل كزينة، بل كبنيةٍ مكانية يصبح فيها الحرف معمارًا. أما في جامع سامراء الكبير، فإن مئذنة الملوية اللولبية لا تُصور الصعود، بل تُجرده، مُقدّمةً إيقاعًا وارتفاعًا دون شكلٍ تصويري. وبالمثل، يكشف لنا قصر الحير الغربي في سوريا كيف تُترجم قصور الصحراء الهندسة والنسبة والإيقاع الوحدوي إلى معنى رمزي واتجاهي حيث لا تكون العمارة تمثيلًا، بل توجيهًا. وفي دار الحجر باليمن، المنحوتة في الصخر، يتحول الشكل الرأسي إلى تجريدٍ للطبيعة، وتُرصّع الواجهة بالنقش والتكرار والانضباط دون أي تمثيلٍ تصويري. لتُجسّد كيف أن القيد المقدّس أفضى إلى تعبيرٍ مادي شاعري.
وعلى مستوى التفاصيل اليومية: إيماءات التجريد المقدّس
امتدّت هذه المبادئ الفلسفية إلى الفضاءات اليومية أيضًا. فالمشربيات، المنتشرة في منازل القاهرة وبغداد، لا تُظهر شيئًا، بل تُرشّح الضوء والهواء والظل عبر منطقٍ هندسي خالص. إنها لا تُجسّد، بل تُخفي وتكشف، وتبني الجو دون أية أيقونة. وكذلك المحاريب، من الأندلس إلى آسيا الوسطى، لم تُمثّل المقدّس، بل أحاطت به. نُقشت بالفسيفساء، والكتابة، والأرابيسك – لتُجسّد حضور الغيبيات دون تزيف لما قد يكون شكلها. الفناء المتناظر في المنازل العباسية والمغاربية والأندلسية هو الآخر لم يصوّر الجنة، بل أعاد بناء توازنها؛ محورٌ، وتدفق، وتناغم، لا عبر الصور، بل عبر رمزية الفضاء واتساقه مع المعنى.
لمحة تصميمية
القيود/الحدود لا تمنع الإبداع، بل قد تُكثّفه وتُعمّقه. في فلسفة التصميم الإسلامي، ليس التقييد والتحديد نقصًا، بل عدسة أخلاقية وميتافيزيقية. إنه يُصقل الإدراك، ويُوجّه القصد، ولا يزيف الخيال ويزيد من عمق الترجمة البصرية.
الصحراء كلُغةٍ معمارية
يرى الآخرون الصحراء كفراغٍ لا حياة فيه. أما نحن، فنراها صفاءً ... مساحة مُنزّهة، تُنظّف القلب وتفتحه على الكون
من الخارج، تبدو الصحراء ساكنة وفارغة وصامتة للغرباء عنها فهي لا تفضي بأسرارها لمن لا يفهم ليلها. في التصورات العربية والإسلامية، لم تكن الصحراء فراغًا، بل كانت لاهوتًا مكانيًا؛ بيئة لا تُعرِّف الحضور من خلال الامتلاء، بل عبر الصفاء، والإيقاع، والتآلف مع ما هو أوسع. بالنسبة للثقافات البدوية، لم تكن الصحراء مكانًا يُفرُّ منه، بل كانت معلمةً يُصغى إليها تُعلِمُ بالفراغ التجريدي وبالصبر، وبالانتباه .. فقيمة المكان لم تكن في كثافته، بل في قدرته على التنفّس. حيث يسعى الآخرون للبناء بغرض السيطرة، بُنيت عمارة الصحراء لتعلّم التواضع.
المعمار الإسلامي، وخاصة في تجلياته الباكرة والمتأثرة بالثقافة البدوية، تبنّى هذا النَفَس. لم يسعَ لاحتواء المقدّس، بل لاستمكانه. لم يكن الغرض الإغلاق، بل الإشارة. التكرار لا يُشبِع التمثيل، بل يُنقّيه. لا تجد صمتًا فنيًا، بل ضبطًا نغميًا. المحراب يشير، لكنه لا يُجسّد. المسجد يفتح باتجاه القبلة، لكنه لا يُغلق عليها. الخيمة تحمي دون أن تمتلك. أفق سامراء، وأفنية الدور العباسية، ومشربيات القاهرة كلها تجسّد هذا الأدب الصحراوي: الانفتاح، التكرار، والنور.
كما يوضح جورج صليبا (1999)، فإن علم الفلك الإسلامي لم يرث العلوم اليونانية فقط، بل أعاد بناءها من خلال ملاحظات يومية وانغماس روحي. تسميات النجوم البدوية لم تكن إسقاطات رمزية، بل أدوات ملاحية سُميت النجوم بما تشير إليه: الماء، الاتجاه، الزمن، الحكاية. لم يكن الفلك زينة، بل معمارًا: بنية من التوقيت، والاتجاه، والذاكرة. وبهذا نرى أن الثقافة البدوية صانعة محتوى وليست مرآة جيرانها
هذا الاندماج الكوزمولوجي ينعكس في العمارة أيضًا. وكما وثّق ديفيد كينغ، صُممت المساجد لتتجه نحو النجوم، والرياح، والقبلة (King, 1997). المساجد الأولى في المدينة والكوفة لم تكن ضخمة أو مغلقة بل كانت حدودًا مفتوحة تتنفس بنفس الصحراء. لم تكن حيطانها تهيمن، بل تتجه.
هندسةٌ روحية في مقابل رمزية هيغل
هذا التوجّه الروحي في تشكيل المكان يختلف جذريًا عن التصور الهيغلي لما يسميه بـ"العمارة الرمزية"، كما يشرحها ك. مايكل هايز. أستشهد بهيغل هنا لا بوصفه مرجعية، بل كنقطة تضاد تُظهر انحراف المركز الأوروبي عن رؤى روحية أخرى للعالم. في فلسفة هيغل، تأتي العمارة الرمزية كمرحلة أولى في رحلة الروح نحو تجليها، لكنها تظل ناقصة—محاولات للتعبير عن المطلق عبر مادة لا تستطيع احتوائه فبرج بابل، أو أهرامات مصر، عنده ليست إنجازات، بل إشارات إلى روح تحاول التحرر من قيد المادة... وتفشل. أما في التقاليد الإسلامية والبدوية، فالصورة مختلفة. الإيماءة ليست صراعًا مع المادة، بل طريقة للعبور من خلالها. الروح لا تحتاج إلى أن تُحبَس داخل شكل كي تُدرك. بل على العكس: قوتها تتجلى حين يُفسَح لها المجال دون ادّعاء تمثيل أو احتواء. لذا، لا تفشل العمارة في التعبير عن المقدّس… بل تنجح بعدم ادّعاء امتلاكه. وفي هذا السياق، يصبح التجريد الإسلامي أكثر من خيار جمالي—إنه موقف معرفي وأخلاقي. بينما يرى هيغل التكرار تشويشًا على الفكرة، يراه الإسلام ذكرًا—إيقاعًا يستحضر الحضور الإلهي من دون أن يحاول حصره … إيقاعًا للعودة لا لتكرار الشيء بل لاستحضار المعنى. ليس محاولة لتعريف المطلق، بل وسيلة للتماسّ معه دون تطويقه. تكرار لا يعبّر عن عجز، بل عن طقس حضور يتجدد، ولهذا تشعر عمارة الصحراء بأنها أقرب إلى السماء: لا لأنها ضخمة أو شاهقة، بل لأنها خفيفة، منفتحة، تتجه ولا تستعرض؛ تشير ولا تحتكر. هي تكرار لا يهدف إلى تعريف الإله، بل إلى السكن في ظله. تكرار لا يقف عند الشكل، بل يعبر به إلى المقصود.
ولا تقتصر التجليات المعمارية المقدّسة في الإسلام على الصحراء وحدها. فكما أن الصحراء تعلّمنا عبر الانفتاح، هناك أيضًا مدارس عربية عريقة حول حوض البحر الأبيض المتوسط تعلّمنا عبر الاحتواء. من المهم هنا التوضيح أن حديثنا عن "حضارات البحر المتوسط" لا يُحيل إلى الخارج الأوروبي، بل إلى التقاليد العربية المتوسطية، من بلاد الشام والمغرب العربي وصولًا إلى الأندلس. وهذه التعددية في الأنماط ليست تناقضًا، بل تناغمًا، لا انفصالًا بل تنوّعًا من منبع واحد. وإن الفصل بين هذه الأنماط (بين ما هو صحراوي وما هو متوسطي) وإظهارهما كعالمين متضادين يعيد إنتاج ثنائيات استشراقية قديمة: الجفاف مقابل الخصب، الخيمة مقابل القصر، البساطة مقابل الترف. بينما الواقع أكثر ثراءً واتساعًا: ما نراه هو طيفٌ متصل من تعبيرات روحية، تشكّلت حسب الموقع، والمناخ، والطقس الروحي. فمن الصحراء إلى الحديقة، ومن الخيمة إلى القبة، ومن الانفتاح إلى الاحتواء … كل ذلك لا يُعبّر عن تضاد، بل عن تعدد متناغم في الطرق التي تجلّت بها كوزمولوجيا واحدة: الإسلام. كوزمولوجيا لا تتجلى في نمط واحد، بل في كوكبةٍ من التعبيرات. هذه ليست "اختلافات". إنها أطياف متعددة من نفس النور الميتافيزيقي. ففي الرؤية البدوية، يتجلى السعي نحو السماوات المفتوحة. حيث يُساء فهم الفراغ كثافة، يُعاد تأويله كألفة. معمار يتنفس مع الكون، لا يتعالى عليه. أما في الرؤية المتوسطية عند العرب، فالقرب من المقدّس يُصاغ عبر الاحتواء: الحديقة، الفناء، النافورة طيٌّ رمزيٌ للفردوس إلى الداخل. ليست هذه رؤى متعارضة، بل وجوه متعددة لنية واحدة: أن نبني لا لفرض الهيمنة، بل لتحقيق التناسق؛ لا لتطويق المعنى، بل لمراودته باحترام.
من الإيماءة إلى البنية: التوجيه المقدّس
المحراب لا يُصوّر، بل يُشير.
لا يرسم الإله، بل يحدد جهة التوجّه نحوه.
والمساجد الأولى، من المدينة إلى الكوفة، لم تكن معالم سلطة، بل مساحات عبور وانفتاح، تُبقي السماء مكشوفة، والاتجاه واضحًا… فحتى الخيمة بطبيعتها المؤقتة وإيقاعها البسيط لا توفر المأوى كملكية، بل كإذن بالعبور. مأوى دون تطويق، ظلّ دون جدران. إنها تجسيد لسيولة روحية، وحالة من الترحال المقدّس.
رؤية تصميمية
في الفلسفة المعمارية العربية والإسلامية، الامتناع ليس نقصًا، بل قصد وتوجيه.
الفراغ ليس مساحة غير مكتملة، بل فسحة لاحتمال ما لا يُقال.
الصمت جزء من التكوين. والبُعد ليس غيابًا، بل دعوة للحضور.
التصميم هنا لا يملأ العين، بل يوقظ البصيرة. لا يكدّس، بل يُهيّئ.
الهيكل ليس غاية، بل بوابة.
تشبيهات ثقافية
"ما" في الجمالية اليابانية: السكون الفاصل، كمسافة روحية بين الأشياء.
"الفطرة" في التصور الإسلامي: القابلية الفطرية للانفتاح على النظام الإلهي بلا وساطة.
"الذكر" في الممارسة الصوفية: إيقاع يتكرر لا ليملأ الزمن، بل ليستحضر المعنى.
وفي مقابل قراءة هيغل للروح وهي تحاول أن تعرّف ذاتها من خلال العمارة، فإن هذه الرؤية ترى أن الروح لا تحتاج إلى إعادة تعريف هي معروفة. وما نحن بحاجة إليه ليس تقييدها في شكل، بل التهيؤ للإقامة في ظلّها، دون أن نحاول احتواءها.
نحو التهيئة والتوجّه فالتصميم أعمق من تصميم سير عملية
في عالم التصميم الحديث، يُقدَّم التصميم بوصفه وسيلة لحلّ المشكلات: تلبية الحاجة، تقليل العوائق، وتسريع الأداء. منطقٌ صاغته البُنى الصناعية الحديثة، حيث تُقاس القيمة بالإنتاجية، وتُقصى الخيالات التي لا تترجم إلى ربح مباشر. وهذا التصوّر ليس محايدًا؛ بل هو نتاج بنية استعمارية جعلت من الكفاءة معيارًا وحيدًا للجدوى والنجاح. وكما يوضح تريستان شولتز وزملاؤه (Schultz et al., 2018)، فإن "الحداثة الاستعمارية" لم تقتصر على نهب الموارد الطبيعية، بل أخضعت أيضًا طرقًا بديلة لتصوّر الزمن، والمكان، والإبداع ساحقةً بذلك احتمالات تصميم تنبني على تداخل الأرواح، والقصص، والإيقاعات الداخلية. لقد خنقت أنساقًا من التصميم تقيس الجدوى والنجاح بالأرقام حصراً دون المعنى، وتتعامل مع الفضاء بوصفه فراغًا ينبغي ملؤه، لا نسيجًا من التوجّه والعلاقة. أما في الروح العربية والإسلامية، فالخيال ليس ترفًا، بل ضرورة. ليس زينةً تُضاف لاحقًا، بل أصلٌ أنطولوجي. لا نُشيّد القباب لستر المكان وحسب بل لترديد صدى السماء. لا نزرع الحدائق لنطلب الظل وحسب بل لنُجسّد فردوسًا موعودًا. ولا نفرد سجادة الصلاة للزينة بل لنؤسس مساحة للتوجّه، والذكر، والحضور.
السجادة كاستعارة
لقد حملت السجادة أدوارًا رمزية متعددة عبر الزمن. وفي هذا المقال، أستدعيها كاستعارة للخيال المُعلّق، وللاتجاه الروحي الذي كاد أن يُنسى. فالسجادة التي كانت يومًا أداة صلاة تُرسَم عليها القبلة، وتُنشر فوقها النيّة، تطوّرت لاحقًا إلى “سجادة طائرة” لا كحلمِ هروب، بل وسيلة سفر لا تتطلب غزوًا. وحركة بلا سيطرة. وانتقالاً بلا استعمار. هو طيرانٌ يستمد قوته من الانتماء، لا من الإخضاع. ثم… توقّف كل شيء. فالسجادة التي كانت بوابة السماء، ثم حاملة لخيال الطيران أُعيد تشكيلها واختزلت كزينة. بُسطت، زُخرفت، أُفرغت من دلالتها. لم تَعُد تشير إلى شيء. لم تَعُد تُصلّي. صارت فقط تُعرض. لكن القصة لم تنتهِ بعد. إن إعادة التوجّه في التصميم اليوم لا تعني الهروب من الواقع، بل استعادة البوصلة. ألا نكتفي بالتصميم لسير العملية، بل نعيد إحياء المعنى. أن نزرع فضاءات جديدة تحمل احتمالات الانبعاث والاتجاه والاحتمال. فإعادة تفعيل هذه الرموز لا تنكر تعقيد الواقع المادي … بل تضيء عمقه وتعيد تنظيمه وفق منظور أكثر اتساعًا واتصالًا.
رؤية تصميمية
في التقاليد العربية والإسلامية، لا يكون البناء غايةً نهائية، بل بذرة. لا يكتفي بالإيواء، بل يوجّه.
لا يُصمَّم ليُنهي، بل ليبدأ.
فالتصميم الجيد لا يُقاس بكمال الشكل، بل بقدرته على احتضان التحوّل، وعلى فسح المجال لما لم يولد بعد.
في هذا المنظور، السقف ليس مجرد غطاء—بل سماء مصغّرة.
السجادة ليست زينة أرضية—بل بوصلة كونية.
الحديقة ليست مساحة خضراء—بل انعكاس رمزي للفردوس.
إننا لا نصمّم لنغلق، بل لنفتح. لا لنعرض، بل لنشير. لا لنُثبت، بل لنسمح بالتحوّل.
المقارنة الثقافية
في حين يُطرح "التصميم التكهّني" في الغرب (Dunne & Raby) كتقنية لتخيّل مستقبل بديل، فإن الفكر الإسلامي والعربي قد بَذَرَ هذه الرؤية قبل قرون—عبر المحاريب، والقباب، وإيقاع الخط، واتجاه القبلة. لم يكن الخيال خيارًا تجميليًا، بل ضرورة كونية.
وكما يشير ترستان شولتز وآخرون، فإن الاستعمار لم يُقصِ فقط الموارد، بل ضيّق أفق التخيّل نفسه—قاطعًا الجذور التي تستمد منها الشعوب تصوّراتها الوجودية والزمنية. لكن التقاليد الإسلامية لم تُبنَ على خط زمني مستقيم. بل على إيقاعات: ذكر، توجّه، تنفّس، واستدعاء دائم للمصدر السماوي في الأرضي.
إعادة صياغة السؤال
السؤال ليس: ما الذي نصمّمه؟
السؤال هو: إلى أين يوجّهنا هذا التصميم؟
أيّ احتمالات يوقظ فينا؟ وأيّ ذاكرة يُعيد إليها الحياة؟
إعادة توجيه التصميم بوصفه ممارسة كوزمولوجية
أن نصمّم، في عمق الأمر، هو أن نجسّد منطق ثقافي. وفي الفكر العربي والإسلامي نحن لا نبني وحسب … بل منطقنا الثقافي يعيش، يُصلّى، يُرتل، ويشعر. لا ينبت من مرجعٍ واحد، بل من كوكبة من المعاني، تُشكّلها الإيقاعات، والتجليّات، والذكر. هذه ليست استعارات شاعرية وإن قرأت كذلك بل هي أدوات إدراك. مناهج نُسجت في عمق الفهم العربي والإسلامي لقرون. لم نُصمّم لنحلّ. بل صمّمنا لنهتدي. هذا التوجّه ليس نحو الماضي، بل نحو التمكين. ما أقدّمه هنا ليس حنينًا، بل استعادة. التصميم العربي والإسلامي ليس إطارًا اندثر، بل نسق حي … لا يزال ينبض، رغم الصمت المفروض عليه. لم يُهمّش لأنه لم يعد صالحًا، بل لأنه لم يكن جزءًا من الخريطة التي رُسمت للتقدّم الحديث. لهذا، لا بدّ من نقل العدسة. هذا الفكر لا يأتي "بعد" الحداثة، بل يقدّم حداثاتٍ بديلة. لم تكن ترى الزمن خطًا، ولا المستقبل فراغًا يجب ملؤه. بل كانت ترى التصميم كاستذكار، وكتموضع، وكإمكانية. زمنٌ آخر. أخلاقٌ أخرى.
وفي هذا السياق، يصبح الرفض فعل إنشاء. الامتناع عن التمثيل ليس نقصًا، بل إجلالاً. الامتناع عن الهيمنة ليس انسحابًا، بل اتساق مع الطبيعة. هندسة لا تحكم بل تصغي. تناظر لا يرضي العين فحسب، بل يُوجّه الروح. اليوم، يطلب منا كمصممين أن نُسرع. أن نُبدع، نبتكر، نُنتج. وهذا يولد عنفاً فالتصميم يصبح عنيفًا حين يُفصل عن جذوره الماورائية. حين يُنزَع من أنساقه الوجودية.
نحن لسنا بلا خرائط. في عالم التصميم اليوم، تنهض حركات جديدة: التصميم التكهّني، التعدّدية الكوزمولوجية، التخيل ما بعد الاستعمار. لكن كثيرًا مما يبدو جديدًا… هو امتداد لما عشناه من قبل. كما يذكّرنا أرتورو إسكوبار، ما نحتاجه ليس ابتكارًا بل استرجاعًا. وكما يقول أحمد أنصاري، الجذر المعرفي للتصميم لم يكن يومًا محايدًا. لكنه قادر على التحوّل. وهنا تعود السجّادة لا كحنين، بل كاحتمال. كانت يومًا مصلى، ثم صارت وسيلة طيران، واليوم تحوّلت إلى ديكور. لكنها لم تختفِ. بل صمتت. ومع ذلك، ما زالت تعلّمنا. كيف نضع أنفسنا. كيف نتوجّه. كيف نرتحل دون غزو. كيف نحمل الذاكرة كخارطة. السجادة ليست قطعة. بل فلسفة. تختزن الإمكانيات. تدعو إلى الاصطفاف. وتُعلّمنا أن السكن ليس إغلاقًا، بل تواصل.
وربما هنا يوجه لهذا الحديث انتقاد أن التعقيد المادي يستوجب ما يستوجب ولهذا نقول: إن إعادة الجذر الكوزمولوجي للتصميم لا تعني تجاهل التعقيد المادي… بل احتضانه ضمن رؤى أكثر عمقًا.
السؤال إذًا ليس: ماذا فقدنا؟
بل: ما الذي نحن مستعدّون لإيقاظه؟
لا نحتاج إلى أدوات أسرع، ولا إلى البَّراق بل نحتاج إلى أرضيات أهدأ، وإيقاعات أبطأ، واتجاهات أعمق
نحتاج إلى تصاميم تُذكّرنا بمكاننا، وتُعيننا على أن نصبح ما لم نكنه بعد … لا كاختراع بل كعودة عبر إعادة التوجيه. لا لنرجع إلى الوراء، بل لنبني إلى الأمام، من حيث لم تغادرنا كوزمولوجياتنا أبدًا.
المراجع
أندرسون، بنديكت (1983). الجماعات المتخيّلة: تأملات في أصل وانتشار القومية. لندن: فيرسو.
🔹 مرجع كلاسيكي في الدراسات القومية. استُخدم لفهم كيف تُبنى "الانتماءات" رمزياً، كما في استعارة "سجادة الصلاة كأمة غير مُسيّجة".
أنصاري، أحمد؛ خاندوالا، رُخسار؛ وشولتز، تريستان (2019). "تفكيك خطابات التصميم: فهم العنف المعرفي لتفكير التصميم، والحاجة إلى مناهج نقدية." في: كلارك، دي.؛ مالك، أ.؛ وزويكي، س. (محررون). تفكيك الاستعمار في التصميم. لندن: روتليدج، ص. 120–137.
🔹 مرجع رئيسي في نقد جذور التصميم الغربية وكيف تُقصي الرؤى غير الغربية.
إسكوبار، أرتورو (2015). "النمو السالب، ما بعد التنمية، والتحوّلات: حوار تمهيدي." مجلة علوم الاستدامة، 10(3)، ص. 451–462.
🔹 يُعد من أبرز منظّري "المستقبلات التعددية" التي لا ترتكز على مركزية الغرب.
هايز، ك. مايكل (2016). الخيال المعماري. دورة من جامعة هارفارد عبر منصة edX.
🔹 استخدم لفهم موقع العمارة الرمزية في فلسفة هيغل، كأداة مقارنة مع الفكر الإسلامي.
كينغ، ديفيد أ. (1997). "علم الفلك والمجتمع في الحضارة الإسلامية." في: رشاد، رشدي (محرر)، دائرة المعارف لتاريخ العلوم العربية، المجلد الأول، ص. 128–184. لندن: روتليدج.
🔹 مصدر مركزي يبيّن كيف بُنيت العمارة الإسلامية بمراعاة الاتجاهات الفلكية.
صليبا، جورج (1999). "العلم والطب." في: إسبيزيتو، جون ل. (محرر)، تاريخ الإسلام (من جامعة أكسفورد). نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، ص. 124–180.
🔹 يركّز على تجذّر العلوم في التقاليد الإسلامية لا كونها مجرد تفاعل مع التراث اليوناني.
صليبا، جورج (2007). العلم الإسلامي وصناعة النهضة الأوروبية. كامبريدج، ماساتشوستس: MIT Press.
🔹 كتاب محوري يدحض فكرة أن العلم الإسلامي كان مجرد امتداد للعلم اليوناني، ويؤكد على استقلاليته المفهومية.
شولتز، تريستان؛ أنصاري، أحمد؛ وتنستال، إليزابيث دي. (2018). "تفكيك الاستعمار في التصميم: رسم مستقبل كوني متعدد." أوراق فلسفة التصميم، 16(1)، ص. 1–12.
🔹 يؤسس لفكرة التصميم كـ "تربة معرفية" بديلة لا كـ "أسلوب بصري".
تلوستانوفا، مادينا ف. (2015). "بين التبعيات الروسية/السوفييتية والوهم النيوليبرالي: خيارات التفكيك والتحرر من الغرب." الدراسات الثقافية، 29(2)، ص. 1–21.
🔹 تضيء على التقاطعات بين الهيمنة الغربية وسياسات التصميم والمعرفة.